في مثل هذا اليوم قبل ٥٣ سنة في بيروت، أي في ٨ تمّوز/يوليو ١٩٧٢، استشهد الكاتب والمناضل الشيوعي والثوري الفلسطيني غسّان كنفاني، رفقة ابنة شقيقته الطفلة لميس نجم، وذلك إثر تفجير سيارته من قبل الموساد الصهيوني.
قُتل غسّان كنفاني، في فترة شنّت فيها أجهزة الاستخبارات الصهيونية حملة من الاستهدافات طالت كبار قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، في محاولة بائسة لشلّ المقاومة، وكبح شرارة الثورة الفلسطينية التي كان قد بان طابعها الأممي مع توسّع العمل الفدائي إلى خارج حدود الوطن المحتلّ. إنّ استهداف الاحتلال لغسّان كنفاني، الكاتب والمفكّر الذي لم يحمل السلاح يومًا، يظهر مدى تأثير وأهمّية كتاباته ونصوصه ونظريته الثورية، وما حقّقته من نسف للماكينة الدعائية الصهيونية.
ولد غسّان فايز كنفاني سنة ١٩٣٦ في عكّا، وأمضى أوّل ١٢ عامًّا من حياته في فلسطين حتّى سنة ١٩٤٨، حينما كان من بين ٧٥٠ ألف فلسطيني هُجّروا قسرًا خلال حرب النكبة التي شنّتها العصابات الصهيونية على الفلسطينيين لإنشاء كيان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. أمضت عائلة كنفاني فترة وجيزة في مخيّمات لبنان قبل أن تنتقل إلى سوريا، حيث عاش غسّان وأكمل دراسته، لينتقل إلى الكويت سنة ١٩٥٦ ومن بعدها إلى لبنان في ١٩٦٠ حيث استقرّ حتّى استشهاده. لكنفاني العديد من الأعمال الأدبية، منها البحوث والقصص القصيرة والروايات، لعلّ أبرزها "رجال في الشمس"، "عائد إلى حيفا" و"أمّ سعد".
انخرط كنفاني مبكّرا في العمل السياسي، وذلك سنة ١٩٥٣، حيث انضمّ لحركة القوميين العرب بعد لقائه بجورج حبش. في تلك الفترة، كان كنفاني مثله مثل كثر من أبناء جيله، قد اعتنق القومية العربية واعتبرها تمثّل النهج القادر على تحرير فلسطين. إذ أنّ كنفاني الشابّ كان متأثّرًا بالدعوة الناصرية للوحدة العربية، ولا سيما خلال عهد الجمهورية العربية المتّحدة التي تشكّلت من وحدة سوريا ومصر بين سنتي ١٩٥٨ و١٩٦١. إلّا أنّ هزيمة النكسة ١٩٦٧، وما تبعها من تراجعات في مواقف الدول العربية التي ما عادت ترفع شعار تحرير فلسطين، تسبّبت بتحوّلات جذرية على مستوى الوعي السياسي للفئات الشعبية العربية بصورة عامّة والفلسطينية بصورة خاصّة. منذ ذلك الحين، بات واضحًا أنّ تحرير فلسطين لن يأتي على يد الأنظمة العربية الحاكمة وجيوشها النظامية، بل على يد المقاومة الشعبية الفلسطينية بتحالفها مع الطلائع الثورية العربية والعالمية، ما مهّد لتنامي العمل الفدائي.
عندما حلّت النكسة، كان كنفاني قد اعتنق الماركسية-اللينينية كـ "دليل للعمل"، متأثرًا برحلاته لكوبا والصين خلال الستينيات. وقد كان من الأعضاء المؤسّسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سنة ١٩٦٧، التي أصبح متحدّثًا رسميًا باسمها. ضمن الجبهة، شارك كنفاني في كتابة عدد من الوثائق والنصوص بالغة الأهمّية، ومنها كتاب الاستراتيجية السياسية والتنظيمية للجبهة الشعبية، الصادر سنة ١٩٦٩. كما أسّس مجلّة "الهدف"، لسان حال الجبهة الشعبية، وتراّس تحريرها حتّى استشهاده.
انطلاقًا من مبادئه الماركسية اللينينية، شدّد كنفاني على أهمّية كلّ من النظرية الثورية والممارسة الثورية ووحدتهما لبناء حركة مقاومة ثورية فعّالة. في نصّ يحمل عنوان "المقاومة ومعضلاتها كما تراها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، يقول كنفاني: "يبدأ الخطأ الأساسي عند الفصل بين النظرية والممارسة واصطناع الحواجز بينهما، فذلك يؤدي إلى الجمود المذهبي من جهة، وإلى الميكانيكية في فهم التاريخ والتجريبية في ممارسة محاولات تغييره من جهة أخرى."
إنّ تحوّل كنفاني للماركسية اللينينية لم يؤدِّ به للتخلّي عن قضيته الوطنية، على غرار بعض "الماركسيين" التحريفيين أو الدوغمائيين من أمثال مثقّفي ما يسمّى بـ "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، الذين هادنوا مع الصهيونية، واختزلوا النضال المناهض للاستعمار إلى نضال مطلبي ساعٍ إلى وضع المستعمَر على قدم المساواة مع مستعمِرِه. على العكس تمامًا، رأى غسّان كنفاني في الماركسية-اللينينية أداةً لخوض معركة التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار، كما كان قد حصل في الصين وكوبا وكما كان يجري حينها في فيتنام، كذلك فقد أكّد على الإمكانية الثورية للفئات الشعبية في البلدان العربية:
"لا يبدو في التشديد على أهمية هذين البعدين معاً [البعد الطبقي والبعد القومي]، وعلى المستوى نفسه، أي تناقض، كما قد يخيل للحرفيين النساخين، فالحديث عن البعد القومي الوطني ليس حديثاً عن الشوفينية، أو بحثاً للبورجوازية عن إطار يبرر وجودها في السلطة وفي قمة علاقات الإنتاج، بل هو حديث عن الخصائص التاريخية المشتركة والمصير المشترك للطبقات الكادحة العربية صاحبة المصلحة الأولى في معركة التحرير وفي هزيمة عدوها المثلث إسرائيل والإمبريالية والرجعية وحديث عن معركتها الواحدة لا كحقيقة موضوعية يفرضها كونها تنتسب إلى أمة واحدة فقط، بل أيضاً كحقيقة تفرضها المعركة ذاتها. [...] بسبب التعقيدات الخاصة بالقضية الفلسطينية تضحي الحاجة إلى دليل عمل ثوري أكثر إلحاحاً من أي شيء آخر، وبسبب خصوصية القضية الفلسطينية، من حيث أن أحد طرفيها هو استعمار إسكاني وطرفها الآخر هو شعب مقتلع من أرضه، يصبح البعد القومي في المعركة مسألة محورية، وبسبب خصوصية القضية الفلسطينية، من حيث أن أحد طرفيها هو ذراع إمبريالي، وطرفها الآخر هو شعب رازح تحت قيود أنظمة مستغلة مرتبطة بدرجة أو بأخرى بعجلة الإمبريالية، يصبح البعد الطبقي في المعركة مسألة محورية أيضاً، وبسبب خصوصية القضية الفلسطينية من حيث أن أحد طرفيها هو طليعة من طلائع العالم المستغل الغني المتقدم تكنولوجياً، وطرفها الآخر في الجهة العربية مكبل بقيود التخلف تصبح حرب التحرير الشعبية في المعركة هي مسألة محورية أيضاً."
اعتبر كنفاني إذن أنّ للفئات الشعبية الثورية الساعية للتحرّر ثلاثة أعداء، أوّلهما الصهيونية والإمبريالية، والعلاقة بينهما والعداوة معهما واضحة وجليّة، بحكم أنّ الكيان الاستعماري الصهيوني يمثّل قاعدة أمامية للإمبريالية الغربية في منطقتنا العربية، بالتالي، يحقّق الكيان هذا مصالح القوى الإمبريالية الغربية التي، في المقابل، تسعى لضمان استمرارية هذا الكيان، الذي ما كان ليوجد أصلًا لولا الاستعمار الأوروبي والإمبريالية الغربية. أمّا المكوّن الثالث، الرجعية، وهو ها هنا يخصّ الرجعية العربية بالذات، فقد بيّن دورها الوظيفي الذي يخدم المشروع الصهيوني في نصّ كان قد كتبه في خمسينيات القرن الماضي:
"ممّا لا شكّ فيه أنّ الرجعي والانتهازي والإقليمي والطائفي - مع العلم بأنّ كلمة رجعي تعني أيضًا معنى الطائفية - يلتقون في أهدافهم مع أهداف إسرائيل والاستعمار، أكانوا قصدوا ذلك أم لم يقصدوا... والواقع أنّ اعتماد الاستعمار وإسرائيل على هذا الثلاثي يكاد يكون استعمالًا كاملًا... ومن الطبيعي أن تكون مخطّطاتهما كلّها مبنية على أساس التعاون مع هذا الثلاثي على تنفيذ خططهما كافّة."
كتابات غسّان كنفاني التي نُشرت قبل أكثر من ٥٠ سنة من يومنا هذا، لا تزال قادرة على تحليل الوقائع وعلى مساعدتنا في إدراك واقعنا الحالي. ففي مقال لكنفاني كان قد نشر في مجلّة الهدف سنة ١٩٧١ بعنوان "شبح الدولة الفلسطينية"، تحدّث عن استغلال الصهاينة وحلفائهم الإمبرياليين والرجعيين العرب للـ"صدمة" التي خلّفتها مجازر أيلول الأسود بحقّ الفلسطينيين، من أجل الترويج لفكرة إنشاء دولة فلسطينية تكون في حقيقة الأمر كيانًا عقيمًا مفرغًا، تابعًا للأجندات الامبريالية والصهيونية. في حين أنّ هذا بالفعل ما أفضى إليه مسار أوسلو التطبيعي الذي جرى في أعقاب هزيمة انتفاضة الحجارة، عبر التأسيس لما يسمّى بـ "السلطة الفلسطينية" لتكون كيانًا وظيفيًا أقلّ من دولة ولتكون منصاعة بالكامل لإملاءات الكيان الصهيوني والدول الغربية المانحة، فإنّ بعض القوى الغربية والإقليمية، وفي طليعتها فرنسا والسعودية، تحاول استغلال "الصدمة" التي تشكّلها الإبادة الجماعية التي ألحقها الكيان الصهيوني بقطاع غزّة بدعم غير مشروط من الإمبريالية الغربية والرجعية العربية، للترويج لفكرة إنشاء "دولة فلسطينية" تضمّ قطاع غزّة إلى جانب ما تبقّى من معازل الضفّة الغربية، تكون كلفتها بالمقابل تصفية القضية الفلسطينية عبر إنهاء المقاومة المسلّحة. يقول كنفاني: "يستهدف طرح هذه الفكرة على هذه الصورة الإمعان في عزل المقاومة، وسحب أرضها الشعبية من تحتها، فذلك هو الطريق نحو فرض حلول الاستسلام على الشعب الفلسطيني، اذ طالما أنّ حركة المقاومة قادرة على أن تظلّ الممثّلة الوحيدة لإرادة الشعب الفلسطيني فإنّه يبقى من الصعوبة بمكان فرض الاستسلام على هذا الشعب. ولذلك فقد جرى طرح فكرة "الدولة الفلسطينية" في وقت مبكر، وكأنّها صارت حقيقة واقعة، في نوع من التشويش للولاء الفلسطيني للمقاومة، وتشتيت هذا الولاء وسرقته." كما أكّد أنّ "المهمّة الأولى أمام المقاومة الآن هي تعميق موقعها كممثّلة لإرادة الجماهير الفلسطينية"، وذلك عبر:
"- بناء جبهة التحرير الوطني الفلسطينية التي تضبط المسيرة الثورية لجميع الفصائل في برنامج حد أدنى وعلاقات جبهوية.
- تصعيد العمليات القتالية ضدّ العدو الإسرائيلي، ولو أدّى ذلك إلى مرحلة من "التبذير التكيتي".
- تشكيل ضغوط سياسية وقتالية ضدّ الرجعية الأردنية.
- تعزيز العلاقات مع المنظّمات الوطنية والتقدّمية العربية، وتنظيم هذه العلاقات وتعميقها."
إنّنا نستعرض هنا هذه المخطوطات لا لكي نردّدها ترديدًا تقديسيًا أعمًى ونطبّقها بحرفيتها، بل لكي نستقي منها العبر المفيدة ولنجد الوسيلة الأمثل لمواجهة الظروف الراهنة التي تفرض علينا، كالرجعية الأردنية التي لا تزال هي هي، بل حتّى أسوء من ذي قبل، مع مشاركة الأردن المباشرة في حماية أمن الكيان وفي دعم جهود الإبادة الجماعية، وهذا نفسه ينطبق على مصر والإمارات والسعودية، بل على معظم الأنظمة العربية الحاكمة، وهذا ما تغفل عنه العديد من التحليلات التي لا تزال تختزل القضية الفلسطينية إلى صراع هوياتي بين العرب واليهود، وهذا هو الشرك الذي وقعت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية في السبعينات والثمانينات، حيث غلب الجناح اليميني على الجناح اليساري، ما عني عمليًا أنّ قادة الحركة الوطنية سعوا للعمل والتشبيك مع الأنظمة العربية الحاكمة عوضًا عن السعي إلى استنهاض الفئات الشعبية، وهو ما أدّى منطقيًا إلى مسار أوسلو التطبيعي. يقول كنفاني: "كانت النتائج السلبية التي حصلنا عليها [...] تعود إلى نقطة الرصد التي اخترناها افتراضاً، والتي اعتبرت المعركة معركة فلسطينية - إسرائيلية بحتة. والواقع، أن لا مفر من الوصول إلى هذه النتائج السلبية إذا كانت الفرضية الأساسية هي فرضية خطأ، على أن هذه الخصائص السلبية تعود فتنقلب في مجموعها إلى خصائص إيجابية لمصلحة الثورة ومصلحة انتصارها إن جرى إيقاف القضية على رأسها بدلاً من قدميها، واعتبرت - أساساً - قضية الجماهير العربية في مواجهة الإمبريالية والصهيونية وأدواتهما، وكذلك حلفائهما المباشرين أو غير المباشرين."
أخيرًا، تطرّق غسّان كنفاني للمسألة الإعلامية، وبالأخصّ، تعامل الإعلامي الغربي مع القضية الفلسطينية، قائلًا: "إن تغيير ميزان القوى الإعلامي في الغرب لا يحدث إلا في ميدان القتال. [...] إن أي شبكة تلفزيونية ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني في حال سكون الثورة، دقيقة واحدة ليعبر فيها عن رأيه، لكن هذه الشبكات ترغم إرغاماً على فتح شبكاتها أمام صوت المقاومة حين يصبح الحجم القتالي والسياسي لهذه المقاومة من الكبر بحيث يدخل، أو يمس، الإطار اليومي لحياة الناس في الغرب."
كان هذا واضحًا قبل ٥٠ عامًا، ففي حين ينادي البعض بـ "مظلومية الفلسطينيين"، تؤكّد الحقائق بالفعل أنّ القضية الفلسطينية لم تكسب تعاطف وتأييد الشعوب حول العالم باستجداء ضمير المستعمر الصهيوني، بل بمقاومة هذا المستعمر، وبتصدير هذه المقاومة وبإبرام تحالفات أممية مع قيادات وتنظيمات الحركات التحرّرية والتقدّمية والثورية حول العالم. وهذا ما تأكّد مرّة أخرى بعد طوفان الأقصى، الذي أعاد إحياء القضية الفلسطينية لدى شعوب العالم، وعكس تأثير عشرات السنين من الدعاية المناهضة للشعب الفلسطيني ولمقاومته وثورته.
"يجب العمل بكل قوة لترجيح ميزان القوى الراهن لمصلحة القوى الوطنية والتقدمية العربية والفلسطينية، وعلينا أن نعترف منذ البدء بأن هذا كله يصبح مستحيلاً، وضرباً من الوهم، إن لم ينطلق من الإيمان بأن المعركة هي حرب طويلة الأمد، تقودها القوى الجماهيرية الطليعية على مستوى الوطن العربي كله. لا يبدو أنه يوجد وضع يحتم الشروع في تنفيذ هذا البرنامج أكثر من الوضع الراهن، ولا يبدو أنه يوجد مدخل للشروع في هذا التنفيذ أكثر ملاءمة من الوضع الراهن، ولا يبدو أنه يوجد أداة تبادر إلى هذه النقلة أكثر أهلية من حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا يبدو أنه يوجد دليل عمل أكثر وضوحاً وفعالية من الماركسية اللينينية، ملتحمة التحاماً خلاقاً بالترابط النضالي للقومية العربية."